فصل: تفسير الآية رقم (217)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ وَلَا يَزَالُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكِمْ إِنَّ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا‏:‏- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا‏}‏، أَيْ‏:‏ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ، غَيْرُ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ يَعْنِي‏:‏ عَلَى أَنْ يَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِمَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ـ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ كُفَّارُ قُرَيْشٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏217‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏، مَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ‏:‏ ‏{‏فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْكَهْفِ‏:‏ 64‏]‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَارْتَدَّا‏}‏، رَجَعَا‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ‏:‏ “ اسْتَرَدَّ فُلَانٌ حَقَّهُ مِنْ فُلَانٍ “، إِذَا اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُ‏.‏ وَإِنَّمَا أَظْهَرَ التَّضْعِيفَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَرْتَدِدْ‏}‏ لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ سَاكِنَةٌ بِالْجَزْمِ، وَإِذَا سُكِّنَتْ فَالْقِيَاسُ تَرْكُ التَّضْعِيفِ، وَقَدْ تُضَعَّفُ وَتُدْغَمُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، بِنَاءً عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَنْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ دِينِ الْإِسْلَامِ، ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏، فَيَمُتْ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ مَنْ كُفْرِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏.‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏}‏، بَطُلَتْ وَذَهَبَتْ‏.‏ وَبُطُولُهَا‏:‏ ذَهَابُ ثَوَابِهَا، وَبُطُولُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا وَالْجَزَاءِ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ دِينِهِمْ فَمَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْهُمْ أَهْلُ النَّارِ الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا‏.‏ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ “ أَهْلَهَا “ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، فَهُمْ سُكَّانُهَا الْمُقِيمُونَ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “ هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَحِلَّةِ كَذَا “، يَعْنِي‏:‏ سُكَّانُهَا الْمُقِيمُونَ فِيهَا‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، هُمْ فِيهَا لَابِثُونَ لُبْثًا، مِنْ غَيْرِ أَمَدٍ وَلَا نِهَايَةٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ ـ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَبُقُولِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا‏}‏ الَّذِينَ هَجَرُوا مُسَاكَنَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَمُجَاوَرَتَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، فَتَحَوَّلُوا عَنْهُمْ، وَعَنْ جِوَارِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، إِلَى غَيْرِهَا هِجْرَةً لِمَا انْتَقَلَ عَنْهُ إِلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ‏.‏وَأَصْلُ الْمُهَاجِرَةِ‏:‏ “ الْمُفَاعَلَةُ “ مِنْ هِجْرَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ لِلشَّحْنَاءِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَنْ هَجَرَ شَيْئًا لِأَمْرٍ كَرِهَهُ مِنْهُ‏.‏ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “ مُهَاجِرِينَ “، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ هِجْرَتِهِمْ دُورَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ كَرَاهَةً مِنْهُمُ النُّزُولَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي سُلْطَانِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُونَ فِتْنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ- إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَأْمَنُونَ ذَلِكَ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ وَجَاهَدُوا “ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَقَاتَلُوا وَحَارَبُوا‏.‏ وَأَصْلُ “ الْمُجَاهِدَةِ“ “ الْمُفَاعَلَةُ “ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ‏:‏ “ قَدْ جَهَدَ فُلَانَ فُلَانًا عَلَى كَذَا “-إِذَا كَرَبَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ- “ يُجْهِدُهُ جُهْدًا‏"‏‏.‏ فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنِ اثْنَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُكَابِدُ مِنْ صَاحِبِهِ شِدَّةً وَمَشَقَّةً، قِيلَ‏:‏ “ فُلَانٌ يُجَاهِدُ فُلَانًا “- يَعْنِي أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَفْعَلُ بِصَاحِبِهِ مَا يُجْهِدُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ- “ فَهُوَ يُجَاهِدُهُ مُجَاهِدَةً وَجِهَادًا‏"‏‏.‏ وَأَمَّا “ سَبِيلُ اللَّهِ “، فَطَرِيقُهُ وَدِينُهُ‏.‏ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إذًا‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، وَالَّذِينَ تَحَوَّلُوا مِنْ سُلْطَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ هِجْرَةً لَهُمْ، وَخَوْفَ فِتْنَتِهِمْ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، وَحَارَبُوهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ لِيُدْخِلُوهُمْ فِيهِ وَفِيمَا يُرْضِي اللَّهَ ‏{‏أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ‏}‏، أَيْ‏:‏ يَطْمَعُونَ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فَيُدْخِلُهُمْ جَنَّتَهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ‏.‏ “ وَاللَّهُ غَفُورٌ “، أَيْ سَاتِرٌ ذُنُوبَ عِبَادِهِ بِعَفْوِهِ عَنْهَا، مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ‏.‏ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا ذُكِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ يُحَدِّثُهُ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَمْرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ مَا كَانَ، قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ‏:‏ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا فِي سَفَرِهِمْ-أَظُنُّهُ قَالَ‏:‏- وِزْرًا، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ أَجْرٌ‏.‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ- يَعْنِي‏:‏ فِي قَتْلِهِمُ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ- فَلَمَّا تَجَلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ، طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ نُعْطَى فِيهَا أَجْرَ الْمُجَاهِدِينَ‏؟‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏ فَوَضَعَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏، هَؤُلَاءِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏ ثُمَّ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَهْلَ رَجَاءٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَأَنَّهُ مَنْ رَجَا طَلَبَ، وَمَنْ خَافَ هَرَبَ‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مَثَلُهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ‏:‏ يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْخَمْرِ وَشُرْبِهَا‏.‏ وَ“ الْخَمْرُ “ كُلُّ شَرَابٍ خَمَّرَ الْعَقْلَ فَسَتَرَهُ وَغَطَّى عَلَيْهِ‏.‏ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ خَمَرْتُ الْإِنَاءَ “ إِذَا غَطَّيْتُهُ، وَ“ خَمِرَ الرَّجُلُ “، إِذَا دَخَلَ فِي الْخَمَرِ‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ “ هُوَ فِي خِمَارِ النَّاسِ وَغِمَارِهِمِ “، يُرَادُ بِهِ دَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ‏.‏ وَيُقَالُ لِلضَّبْعِ‏:‏ “ خَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ “، أَيِ اسْتَتِرِي‏.‏ وَمَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ دَاءٍ وَسُكْرٍ فَخَالَطَهُ وَغَمَرَهُ فَهُوَ “ خَمْرٌ‏"‏‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا “ خِمَارُ الْمَرْأَةِ “، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَسْتُرُ ‏[‏بِهِ‏]‏ رَأْسَهَا فَتُغَطِّيهِ‏.‏ وَمِنْهُ يُقَالُ‏:‏ “ هُوَ يَمْشِي لَكَ الْخَمَرُ “، أَيْ مُسْتَخْفِيًا، كَمَا قَالَ الْعَجَاجُ‏:‏

فِي لَامِعِ الْعِقْبَانِ لَا يَأتِي الْخَمَرْ *** يُوَجِّهُ الْأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “ لَا يَأْتِي الْخَمَرْ “ لَا يَأْتِي مُسْتَخْفِيًا وَلَا مُسَارَقَةً، وَلَكِنْ ظَاهِرًا بِرَايَاتٍ وَجُيُوشٍ‏.‏ وَ“ الْعَقِبَانُ “ جَمْعُ “ عُقَابٍ “، وَهِيَ الرَّايَاتُ‏.‏ وَأَمَّا “ الْمَيْسِرُ “ فَإِنَّهَا “ الْمَفْعِلُ “ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ يَسَرَ لِي هَذَا الْأَمْرُ “، إِذَا وَجَبَ لِي “ فَهُوَ يَيْسِرُ لِي يَسَرًا وَمَيْسِرًا “ وَ“ الْيَاسِرُ “ الْوَاجِبُ، بِقِدَاحٍ وَجَبَ ذَلِكَ، أَوْ فُتَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏ ثُمَّ قِيلَ لِلْمُقَامِرِ، “ يَاسِرٌ وَيَسَرٌ “، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ *** يُقَلِّبُ، بَعْدَ مَا اخْتُلِعَ، الْقِدَاحَا

وَكَمَا قَالَ النَّابِغَةُ‏:‏

أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ الْقِدَاحُ بِوَفْرِهِ *** أَسِفٌ تَآكَلَهُ الصَّدِيقُ مُخَلَّعُ

يَعْنِي “ بِالْيَاسِرِ “‏:‏ الْمُقَامِرَ‏.‏ وَقِيلَ لِلْقِمَارِ “ مَيْسِرٌ‏"‏‏.‏ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ نَحْوَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْقِمَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّي “ الْمُيَسِّرُ “ لِقَوْلِهِمْ‏:‏ “ أيْسِرُوا واجْزُرُوا “، كَقَوْلِكَ‏:‏ ضَعْ كَذَا وَكَذَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ كُلُّالْقِمَارِ مِنَ الْمَيْسِرِحَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي تَزْجُرُونَ بِهَا زَجْرًا، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْمَيْسِرِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْكِعَابَ الَّتِي تَزْجُرُونَ بِهَا زَجْرًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ‏.‏ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ قَالَ‏:‏ الْقِمَارُ مَيْسِرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ خَطَرٌ أَوْ‏:‏ فِي خَطَرٍ، أَبُو عَامِرٍ شَكَّ، فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ أَبُو هَمَّامٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ قَالَ‏:‏ كُلُّ قِمَارٍ مَيْسِرٌ، حَتَّىاللَّعِبُ بِالنَّرْدِعَلَى الْقِيَامِ وَالصِّيَاحِ وَالرِّيشَةِ يَجْعَلُهَا الرَّجُلُ فِي رَأْسِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ سَيْرَيْنَ قَالَ‏:‏ كُلُّ لَعِبٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ شُرْبٍ أَوْ صِيَاحٍ أَوْ قِيَامٍ، فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِأَنَّهُ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ قَالَا كُلُّ قِمَارٍ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ وَالْجَوْزِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍِ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْكَعْبَتَيْنِ يَزْجُرُ بِهِمَا زَجْرًا، فَإِنَّهُمَا مِنَ الْمَيْسِرِ‏.‏ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ الْمَيْسِرُ “، فَهُوَ الْقِمَارُ كُلُّهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ‏:‏ النَّرْدُ “ مَيْسِرٌ “، أَرَأَيْتَ الشِّطْرَنْجَ‏؟‏ مَيْسِرٌ هُوَ‏؟‏ فَقَالَ الْقَاسِمُ‏:‏ كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَأَيُّهُمَا قَمَرَ صَاحِبَهُ ذَهَبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ‏.‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَا الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ كُلُّهُ، حَتَّىالْجَوْزُ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ‏.‏ حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ ز عَنِ الضَّحَّاكِ قَوْلَهُ‏:‏ “ الْمَيْسِرُ “، قَالَ‏:‏ الْقِمَارُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ‏:‏ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ الْقِمَارُ مِنَ الْمَيْسِرِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ، قِدَاحُ الْعَرَبِ وَكِعَابُ فَارِسَ قَالَ‏:‏ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَزَعَمَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ‏:‏ أَنَّ الْمَيْسِرَ الْقِمَارُ كُلُّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قَالَ مَكْحُولٌ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَشُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ‏:‏ “ فِيهِمَا “، يَعْنِي فِيالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ‏{‏إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏، فَالْإِثْمُ الْكَبِيرُ الَّذِي فِيهِمَا مَا ذُكِرَ عَنِ السُّدِّيِّ فِيمَا‏:‏- حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏، فَإِثْمُ الْخَمْرِ أَنَّ الرَّجُلَ يَشْرَبُ فَيَسْكَرُ فَيُؤْذِي النَّاسَ‏.‏ وَإِثْمُ الْمَيْسِرِ أَنْ يُقَامِرَ الرَّجُلُ فَيَمْنَعُ الْحَقَّ وَيَظْلِمُ‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا أَوَّلُ مَا عِيبَتْ بِهِ الْخَمْرُ‏.‏ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏، يَعْنِي مَا يَنْقُصُ مِنَ الدِّينِ عِنْدَ مَنْ يَشْرَبُهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ “ الْإِثْمِ الْكَبِيرِ “ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏:‏ فِي “ الْخَمْرِ “ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ‏:‏ زَوَالُ عَقْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ إِذَا سَكِرَ مِنْ شُرْبِهِ إِيَّاهَا حَتَّى يَعْزُبَ عَنْهُ مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْآثَامِ‏.‏ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏ وَأَمَّا فِي “ الْمَيْسِرِ “، فَمَا فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ بِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُتَيَاسِرِينَ بِسَبَبِهِ، كَمَا وَصَفَ ذَلِكَ بِهِ رَبُّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْمَائِدَةِ‏:‏ 91‏]‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، فَإِنَّمَنَافِعَ الْخَمْرِكَانَتْ أَثْمَانُهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، وَمَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ بِشُرْبِهَا مِنَ اللَّذَّةِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي صِفَتِهَا‏.‏

لَنَا مِنْ ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ *** وَذِكْرَى هُمُومٍ مَا تُغِبُّ أَذَاتُهَا

وَعِنْدَ الْعِشَاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ *** وَمَالٌ كَثِيرٌ، عِزَّةٌ نَشَوَاتُهَا

وَكَمَا قَالَ حَسَّانُ‏:‏

فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا *** وَأُسْدًا، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ

وَأَمَّامَنَافِعُ الْمَيْسِرِ، فَمَا يُصِيبُونَ فِيهِ مِنْ أَنْصِبَاءِ الْجَزُورِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُيَاسِرُونَ عَلَى الْجَزُورِ، وَإِذَا أَفْلَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ نَحَرَهُ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا أَعْشَارًا عَلَى عَدَدِ الْقِدَاحِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ‏:‏

وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إلَى النَّدَى *** وَنِيَاطِ مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلَالَهَا

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ الْمَنَافِعُ هَا هُنَا مَا يُصِيبُونَ مِنَ الْجَزُورِ‏.‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا مَنَافِعُهُمَا، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْخَمْرِ فِي لَذَّتِهِ وَثَمَنِهِ، وَمَنْفَعَةَ الْمَيْسِرِ فِيمَا يُصَابُ مِنَ الْقِمَارِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَنَافِعُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَا‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُ فِيمَا يُصِيبُونَ مِنْ لَذَّتِهَا وَفَرَحِهَا إِذَا شَرِبُوهَا‏.‏ وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏:‏ فَقَرَأَهُ عُظْمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ بِالْبَاءِ، بِمَعْنَى قُلْ‏:‏ فِي شُرْبٍ هَذِهِ، وَالْقِمَارِ هَذَا كَبِيرٌ مِنَ الْآثَامِ‏.‏ وَقَرَأَهُ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ “ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَثِيرٌ “، بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ مِنَ الْآثَامِ‏.‏ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ “ الْإِثْمَ “ بِمَعْنَى “ الْآثَامِ “، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدًا، فَوَصَفُوهُ بِمَعْنَاهُ مِنَ الْكَثْرَةِ‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ “ بِالْبَاءِ “‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏، لِإِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏، وَقِرَاءَتُهُ بِالْبَاءِ‏.‏ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ الْعِظَمُ وَالْكِبَرُ، لَا الْكَثْرَةُ فِي الْعَدَدِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الَّذِي وَصَفَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْكَثْرَةَ، لَقِيلَ‏:‏ وَإِثْمُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ عَزَّ ذِكْرُهُ ـ‏:‏ وَالْإِثْمُ بِشُرْبِ ‏[‏الْخَمْرِ‏]‏ هَذِهِ وَالْقِمَارِ هَذَا أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مَضَرَّةً عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفْعِ الَّذِي يَتَنَاوَلُونَ بِهِمَا‏.‏ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَكِرُوا وَثَبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا يَاسَرُوا وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ بِسَبَبِهِ الشَّرُّ، فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَا يَأْثَمُونَ بِهِ‏.‏ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْخَمْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَرَّحَ بِتَحْرِيمِهَا، فَأَضَافَ الْإِثْمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ بِأَسْبَابِهِمَا، إِذْ كَانَ عَنْ سَبَبِهِمَا يَحْدُثُ‏.‏ وَقَدْ قَالَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَإِثْمُهُمَا بَعْدَ تَحْرِيمِهِمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ تَحْرِيمِهِمَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏، قَالَ‏:‏ مَنَافِعُهُمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِثْمُهُمَا بَعْدَ مَا حُرِّمَا‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ “ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الْمِصْرِيِّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْخَمْرِ ثَلَاثًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ الْآيَةَ، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَنْتَفِعُ بِهَا وَنَشْرَبُهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي كِتَابِهِ‏!‏ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ الْآيَةَ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَشْرَبُهَا عِنْدَ قُرْبِ الصَّلَاةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ حُرِّمَتِ الْخَمْر‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ قَالَا قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏ وَ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي الْقَمُوصِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْخَمْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ‏.‏ فَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏، قَالَ‏:‏ فَشَرِبَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى شَرِبَ رَجُلَانِ فَدَخَلَا فِي الصَّلَاةِ فَجَعَلَا يَهْجُرَانِ كَلَامًا لَا يَدْرِي عَوْفٌ مَا هُوَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمَا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏، فَشَرِبَهَا مَنْ شَرِبَهَا مِنْهُمْ، وَجَعَلُوا يَتَّقُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، حَتَّى شَرِبَهَا- فِيمَا زَعَمَ أَبُو الْقَمُوصِ رَجُلٌ، فَجَعَلَ يَنُوحُ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ‏:‏

تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمَّ عَمْرٍو *** وَهَلْ لَكِ بَعْدَ رَهْطِكِ مِنْ سَلَامِ

ذَرِينِي أَصْطَبِحْ بَكْرًا، فَإنِّي *** رَأَيْتُ الْمَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ

وَوَدَّ بَنُو الْمُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ *** بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ

كَأَيٍّ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ *** مِنَ الشِّيزَى يُكَلَّلُ بِالسَّنَامِ

كَأَيٍّ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ *** مِنَ الْفِتْيَانِ وَالْحُلَلِ الْكِرَامِ

قَالَ‏:‏ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَجَاءَ فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ مِنَ الْفَزَعِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَايَنَهُ الرَّجُلُ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَانَ بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ، قَالَ‏:‏ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏!‏ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَهَا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا‏!‏‏!‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ سِمَاكٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، فَتَرَكُوهَا، ثُمَّ نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ النَّحْلِ‏:‏ 67‏]‏، فَشَرِبُوهَا ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَتَانِ فِي “ الْمَائِدَةِ “‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ الْآيَةَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِذَلِكَ يَشْرَبُونَهَا، حَتَّى صَنَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏، وَلَمْ يَفْهَمْهَا‏.‏

فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُشَدِّدُ فِي الْخَمْرِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏، فَكَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا يَشْرَبُونَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى يَرْتَفِعَ النَّهَارُ، أَوْ يَنْتَصِفَ، فَيَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَهُمْ مُصْحُونَ، ثُمَّ لَا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ- وَهِيَ الْعَشَاءُ- ثُمَّ يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّيْلُ، وَيَنَامُونَ، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَحَوْا- فَلَمْ يَزَالُوا بِذَلِكَ يَشْرَبُونَهَا حَتَّى صَنَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ طَعَامًا، فَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَشَوَى لَهُمْ رَأْسَ بَعِيرٍ ثُمَّ دَعَاهُمْ عَلَيْهِ، فَلِمَا أَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ، سَكِرُوا وَأَخَذُوا فِي الْحَدِيثِ‏.‏ فَتَكَلَّمَ سَعِدٌ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَرَفَعَ لَحْيَ الْبَعِيرِ فَكَسَرَ أَنْفَ سَعِدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَسْخَ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمَهَا وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ- وَعَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ- فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَرِبَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَتَرَكَهَا بَعْضٌ، حَتَّى نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي “ سُورَةِ الْمَائِدَةِ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا أَوَّلُ مَا عِيبَتْ بِهِ الْخَمْرُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، فَذَمَّهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا، لِمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِمَا مِنَ الْمُدَّةِ وَالْأَجْلِ‏.‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي “ سُورَةِ النِّسَاءِ “ أَشَدَّ مِنْهَا‏:‏ ‏{‏لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏، فَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا، حَتَّى إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ سَكَتُوا عَنْهَا، فَكَانَ السُّكْرُ عَلَيْهِمْ حَرَامًا‏.‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي “ سُورَةِ الْمَائِدَةِ “ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏}‏ إِلَى ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ فَجَاءَ تَحْرِيمُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، مَا أَسْكَرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُسْكَرْ‏.‏ وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ عَيْشٌ أَعْجَبُ إِلَيْهِمْ مِنْهَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ إِنَّ رَبَّكُمْ يُقَدِّمُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ إِنَّ رَبَّكُمْ يُقَدِّمُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ‏}‏، فَحُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ ذَلِك‏)‏‏.‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ‏:‏ نُسِخَتْ ثَلَاثَةً، فِي “ سُورَةِ الْمَائِدَةِ “، وَبِالْحَدِّ الَّذِي حَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَضَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُهُمْ بِذَلِكَ حَدًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، وَلَمْ يَكُنْ حَدًّا مُسَمًّى وَهُوَ حَد‏)‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَيَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ أَصْحَابُكَ‏:‏ أَيَّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ‏؟‏ فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ أَنْفَقُوا مِنْهَا الْعَفْوَ‏.‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى‏:‏ “ الْعَفْوِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ الْفَضْلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ الْعَفْوُ مَا فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، أَيِ الْفَضْلَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ هُوَ الْفَضْلُ‏.‏ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ الْعَفْوَ “ قَالَ‏:‏ الْفَضْلُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ “الْعَفْوُ“، يَقُولُ‏:‏ الْفَضْلُ‏.‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ الْقَوْمُ يَعْمَلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ فَضَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَضْلٌ عَنِ الْعَيَّالِ قَدَّمُوهُ، وَلَا يَتْرُكُونَ عِيالَهُمْ جُوعًا وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ الْفَضْلُ، فَضْلُ الْمَالِ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مَا كَانَ عَفْوًا لَا يَبِينُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِي أَمْوَالِكُمْ‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ـ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْيَسِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ الْوَسَطُ مِنَ النَّفَقَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ إِسْرَافًا وَلَا إِقْتَارًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تُجْهِدْ مَالَكَ حَتَّى يَنْفَدَ لِلنَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْعَفْوُ فِي النَّفَقَةِ أَلَّا تُجْهِدَ مَالَكَ حَتَّى يَنْفَدَ فَتَسْأَلَ النَّاسَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْعَفْوُ مَا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا فِي الْحَقِّ قَالَ‏:‏ وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ الْعَفْوُ صَدَقَةٌ عَنْ ظَهْرِ غِنًى‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ أَلَّا تُجْهِدَ مَالَكَ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا‏.‏

ذِكْرُ ذَلِكَ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَاقْبَلْهُ مِنْهُمْ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مَا طَابَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ الطَّيِّبُ مِنْهُ، يَقُولُ‏:‏ أَفْضَلُ مَالِكَ وَأَطْيَبُهُ‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ كَانَ يَقُولُ‏:‏ الْعَفْوُ الْفَضْلُ، يَقُولُ‏:‏ أَفْضَلُ مَالِكَ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ عِيسَى عَنْ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ- شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ- قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ـ‏:‏ ‏{‏قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَى “ الْعَفْوِ “‏:‏ الْفَضْلُ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فِي مَئُونَتِهِمْ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِذْنِ فِي الصَّدَقَةِ، وَصَدَقَتُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ‏:‏

ذِكْرُ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ عِجْلَانَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ‏!‏ قَالَ‏:‏ “ أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ عِنْدِي آخَرُ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ عِنْدِي آخَرُ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ عِنْدِي آخَرُ ‏;‏ قَالَ‏:‏ فَأَنْتَ أَبْصَر‏)‏‏!‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ ‏(‏إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْيَبْدَأْ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ فَضْلًا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِم‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَصَابَهَا فِي بَعْضِ الْمَعَادِنِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ هَذِهِ مِنِّي صَدَقَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا‏!‏ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَاهُ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ هَاتِهَا‏!‏ مُغْضَبًا، فَأَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا حَذْفَةً لَوْ أَصَابَهُ شَجَّهُ أَوْ عَقَرَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَجِيءُ أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَيَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ‏!‏‏!‏ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمَخْرَمِيِّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الْأَحْوَصِ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏ارْضَخْ مِنَ الْفَضْلِ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَاف‏)‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِقْصَاءٍ ذَكَرُهَا الْكِتَابُ‏.‏ فَإِذَا كَانَ الَّذِي أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِالْفَضْلِ عَنْ حَاجَةِ الْمُتَصَدِّقِ، فَالْفَضْلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ “ الْعَفْوُ “ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ، إِذْ كَانَ “ الْعَفْوُ “، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فِي الْمَالِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ‏:‏ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ‏:‏ ‏{‏حَتَّى عَفَوْا‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ وَكَثُرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وَلَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا *** بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ

يَعْنِي بِهِ‏:‏ كَثِيرَاتِ الشُّحُومِ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ‏:‏ “ خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ فُلَانٍ “، يُرَادُ بِهِ مَا فَضَلَ فَصَفَا لَكَ عَنْ جُهْدِهِ بِمَا لَمْ يَجْهَدْهُ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلِ الْعَفْوَ‏}‏ لِعِبَادِهِ مِنَ النَّفَقَةِ، فَأَذِنَهُمْ بِإِنْفَاقِهِ إِذَا أَرَادُوا إِنْفَاقَهُ، هُوَ الَّذِي بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَنْ غِنًى‏)‏، وَأَذِنَهُمْ بِهِ‏.‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ “ الْعَفْوُ “ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْحَلَّتْ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَهَلَكَ جَمِيعُ مَالِهِ إِلَّا قَدْرَ الَّذِي لَزِمَ مَالَهُ لِأَهْلِ سُهْمَانِ الصَّدَقَةِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، إِذَا كَانَ هَلَاكُ مَالِهِ بَعْدَ تَفْرِيطِهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُمْ فِي مَالِهِ إِلَيْهِمْ‏.‏ وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ جُهْدُهُ- إِذَا سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ- لَا عَفْوُهُ‏.‏ وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا عَلَّمَ عِبَادَهُ وَجْهَ إِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ “ عَفْوًا “ مَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا اسْمَ “ جُهْدٍ “ فِي حَالَةٍ‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى “ الْعَفْوِ “ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ رَبُّ الْمَالِ إِلَى إِمَامِهِ فَأَعْطَاهُ، كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلِ مَالِهِ وَكَثِيرِهِ، وَقَوْلِ مِنْ زَعَمَ أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ‏.‏ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ “ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي أَمْوَالِكُمْ “، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو لُبَابَةَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلَعَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مَالِي صَدَقَةً‏)‏، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ ‏(‏يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُث‏)‏، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَالثُّلُثُ لَا شَكَّ أَنَّهُ بَيِّنٌ فَقْدُهُ مِنْ مَالِ ذِي الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدِي كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْفُرْقَانِ‏:‏ 67‏]‏، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْإِسْرَاءِ‏:‏ 29‏]‏، وَذَلِكَ هُوَ مَا حَدَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ وَاحْتِمَالِهِ‏.‏ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَمْ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْعِبَادِ‏؟‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّدَقَةُ‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ “يَسْأَلُونَكَ ‏{‏مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَمْ تُفْرَضْ فِيهِ فَرِيضَةٌ مَعْلُومَةٌ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْأَعْرَافِ‏:‏ 199‏]‏، ثُمَّ نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَمَّاةً‏.‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏، هَذِهِ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مُثْبَتَةُ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ عِيسَى عَنْ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ- شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ قَالَ- قَالَ‏:‏ الْعَفْوُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْهُ عَطِيَّةُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏قُلِ الْعَفْوَ‏}‏ لَيْسَ بِإِيجَابِ فَرْضٍ فُرِضَ مِنَ اللَّهِ حَقًا فِي مَالِهِ، وَلَكِنَّهُ إِعْلَامٌ مِنْهُ مَا يُرْضِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِمَّا يُسْخِطُهُ، جَوَابًا مِنْهُ لِمَنْ سَأَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا فِيهِ لَهُ رِضًا‏.‏ فَهُوَ أَدَبٌ مِنَ اللَّهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ عَلَى مَا أَدَّبَهُمْ بِهِ فِي الصَّدَقَاتِ غَيْرِ الْمَفْرُوضَاتِ ثَابِتُ الْحُكْمِ، غَيْرُ نَاسِخٍ لِحُكْمٍ كَانَ قَبْلَهُ بِخِلَافِهِ، وَلَا مَنْسُوخٍ بِحُكْمٍ حَدَثَ بَعْدَهُ‏.‏ فَلَا يَنْبَغِي لِذِي وَرَعٍ وَدِينٍ أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ وَهِبَاتِهِ وَعَطَايَا النَّفْلِ وَصَدَقَتِهِ، مَا أَدَّبَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ فَضَلٌ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ بِوَلَدِه‏)‏، ثُمَّ يَسْلُكُ حِينَئِذٍ فِي الْفَضْلِ مَسَالِكَهُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ وَيُحِبُّهَا‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ “ الْقَوَامُ “ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَيُقَالُ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ‏:‏ مَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ لَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ عَلَى أَنْلِلرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ، صَدَقَةً وَهِبَةً وَوَصِيَّةً، الثُّلُثَ‏؟‏فَمَا الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ‏؟‏ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ “، أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَفْوِ مِنَ الْمَالِ غَيْرُ لَازِمٍ فَرْضًا، وَأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ سَاقِطٌ بِوُجُودِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ قِيلَ لَهُ‏:‏ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَفْوِ كَانَ فَرْضًا فَأَسْقَطَهُ فَرْضُ الزَّكَاةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا جَوَابُ مَا سَأَلَ عَنْهُ الْقَوْمُ عَلَى وَجْهِ التَّعَرُّفِ لِمَا فِيهِ لِلَّهِ الرِّضَا مِنَ الصَّدَقَاتِ‏؟‏ وَلَا سَبِيلَ لِمُدَّعِي ذَلِكَ إِلَى دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّةَ مَا ادَّعَى‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا الْقَرَأَةُ فَإِنَّهُمِ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ “ الْعَفْوِ‏"‏‏.‏ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَقَرَأَةِ الْحَرَمَيْنِ وَعُظْمُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ “ قُلِ الْعَفْوَ “ نَصْبًا‏.‏ وَقَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ “ قُلِ الْعَفْوَ “ رَفْعًا‏.‏ فَمَنْ قَرَأَهُ نَصْبًا جَعَلَ “ مَاذَا “ حَرْفًا وَاحِدًا، وَنَصَبَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ يُنْفِقُونَ “، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ قَبْلُ- ثُمَّ نَصَبَ “ الْعَفْوَ “ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ وَيَسْأَلُونَكَ أَيَّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ‏؟‏ وَمَنْ قَرَأَ رَفْعًا جَعَلَ “ مَا “ مِنْ صِلَةِ “ ذَا “، وَرَفَعُوا “ الْعَفْوَ‏"‏‏.‏ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ‏؟‏ قُلِ‏:‏ الَّذِي يُنْفِقُونَ الْعَفْوُ‏.‏ وَلَوْ نَصَبَ “ الْعَفْوَ “، ثُمَّ جَعَلَ “ مَاذَا “ حَرْفَيْنِ، بِمَعْنَى‏:‏ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ‏؟‏ قُلْ‏:‏ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ وَرَفَعَ الَّذِينَ جَعَلُوا “ مَاذَا “ حَرْفًا وَاحِدًا، بِمَعْنَى‏:‏ مَا يُنْفِقُونَ‏؟‏ قُلِ‏:‏ الَّذِي يُنْفِقُونَ، خَبَرًا كَانَ صَوَابًا صَحِيحًا فِي الْعَرَبِيَّةِ‏.‏ وَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قُرِئَ ذَلِكَ، فَهُوَ عِنْدِي صَوَابٌ، لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا، مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا‏.‏ غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ بِهِ مَنِ الْقَرَأَةِ أَكْثَرُ، وَهُوَ أَعْرِفُ وَأَشْهُرُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ‏}‏، هَكَذَا يُبَيِّنُ أَيْ‏:‏ مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ أَعْلَامِي وَحُجَجِي- وَهِيَ “ آيَاتُهُ “- فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَعَرَّفَتْكُمْ فِيهَا مَا فِيهِ خَلَاصُكُمْ مِنْ عِقَابِي، وَبَيَّنْتُ لَكُمْ حُدُودِي وَفَرَائِضِي، وَنَبَّهْتُكُمْ فِيهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِي، ثُمَّ عَلَى حُجَجِ رَسُولِي إِلَيْكُمْ، فَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَى ظُهُورِ الْهُدَى فَكَذَلِكَ أُبَيِّنُ لَكُمْ فِي سَائِرِ كِتَابِي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَى نَبِيِّي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتِي وَحُجَجِي وَأُوَضِّحُهَا لَكُمْ، لِتَتَفَكَّرُوا فِي وَعْدِي وَوَعِيدِي، وَثَوَابِي وَعِقَابِي، فَتَخْتَارُوا طَاعَتِي الَّتِي تَنَالُونَ بِهَا ثَوَابِي فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْأَبَدِ، عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْيَسِيرِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، بِرُكُوبِ مَعْصِيَتِي فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، الَّتِي مَنْ رَكِبَهَا كَانَ مَعَادُهُ إِلَيَّ، وَمَصِيرُهُ إِلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِي وَعَذَابِي‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَعْنِي فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا، وَإِقْبَالِ الْآخِرَةِ وَبَقَائِهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ لَعَلَّكُمْ ‏{‏تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏، قَالَ يَقُولُ‏:‏ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتَعْرِفُونَ فَضْلَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَّا الدُّنْيَا، فَتَعْلَمُونَ أَنَّهَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ فَنَاءٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ جَزَاءٍ ثُمَّ بَقَاءٍ، فَتَتَفَكَّرُونَ فَتَعْمَلُونَ لِلْبَاقِيَةِ مِنْهُمَ قَالَ‏:‏ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَذْكُرُ نَحْوَ هَذَا أَيْضًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، وَ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ النِّسَاءِ‏:‏ 10‏]‏، انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ‏.‏ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍِ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُنَّا نَصْنَعُ لِلْيَتِيمِ طَعَامًا فَيَفْضُلُ مِنْهُ الشَّيْءُ، فَيَتْرُكُونَهُ حَتَّى يَفْسُدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ “ وَإِنَّ ‏{‏تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُدَ الْوَسَطِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْحَكَمِ قَالَ‏:‏ سُئِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ فَقَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، اجْتُنِبَتْ مُخَالَطَتُهُمْ، وَاتَّقَوْا كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى اتَّقَوُا الْمَاءَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَخَالَطُوهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ‏:‏ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي ‏[‏سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏]‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، فَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَأْكَلٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، اعْتَزَلَ النَّاسُ الْيَتَامَى فَلَمْ يُخَالِطُوهُمْ فِي مَأْكَلٍ وَلَا مُشْرَبٍ وَلَا مَالٍ، قَالَ‏:‏ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ فَذُكِرُ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي ‏[‏بَنِي إِسْرَائِيلَ‏]‏‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ فَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مُخَالَطَتُهُمْ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَشُرْبِ اللَّبَنِ وَخِدْمَةِ الْخَادِمِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ الْوَلِيُّ الَّذِي يَلِي أَمْرَهُمْ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ أَوْ يَشْرَبَ اللَّبَنَ أَوْ يَخْدِمَهُ الْخَادِمُ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ يَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ الْيَتِيمُ فَيَعْزِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَآنِيَتَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏، فَأَحَلَّ خِلْطَتَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏، قَالَ‏:‏ فَاجْتَنَبَ النَّاسُ الْأَيْتَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَعْزِلُ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ، وَمَالَهُ مِنْ مَالِهِ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏‏.‏ قَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ فَمَنْ خَالَطَ يَتِيمًا فَلْيَتَوَسَّعْ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَالَطَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ فَلَا يَفْعَلْ‏.‏ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ‏}‏، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏، كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَضُمُّوا الْيَتَامَى، وَتَحَرَّجُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ فِي شَيْءٍ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَمَّا نَزَلَتْ “ سُورَةُ النِّسَاءِ “، عَزَلَ النَّاسُ طَعَامَهُمْ فَلَمْ يُخَالِطُوهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا‏:‏ إِنَّا يَشُقُّ عَلَيْنَا أَنْ نَعْزِلَ طَعَامَ الْيَتَامَى وَهُمْ يَأْكُلُونَ مَعَنَا‏!‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ عَزَلُوا طَعَامَهُمْ عَنْ طَعَامِهِمْ وَأَلْبَانَهُمْ عَنْ أَلْبَانِهِمْ وَأُدْمَهَمْ عَنْ أُدْمِهِمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ مُخَالَطَةُ الْيَتِيمِ فِي الْمَرَاعِي وَالْأُدْمِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الْأَلْبَانُ وَخِدْمَةُ الْخَادِمِ وَرُكُوبُ الدَّابَّةِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَفِي الْمَسَاكِنِ، قَالَ‏:‏ وَالْمَسَاكِنُ يَوْمَئِذٍ عَزِيزَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَشْقَرُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ وَ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا‏}‏، قَالَ‏:‏ اجْتَنَبَ النَّاسُ مَالَ الْيَتِيمِ وَطَعَامَهُ، حَتَّى كَانَ يَفْسُدُ، إِنْ كَانَ لَحْمًا أَوْ غَيْرَهُ‏.‏ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ‏}‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ عِيسَى عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ- عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ مُخَالَطَةُ الْيَتِيمِ فِي الرِّعْيِ وَالْأَدْمُ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانَ اتِّقَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ وَاجْتِنَابُهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ، فَاسْتَفْتُوا فِي ذَلِكَ لِمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَأُفْتُوا بِمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَتِ الْعَرَبُ يُشَدِّدُونَ فِي الْيَتِيمِ حَتَّى لَا يَأْكُلُوا مَعَهُ فِي قَصْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَرْكَبُوا لَهُ بَعِيرًا، وَلَا يَسْتَخْدِمُوا لَهُ خَادِمًا فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ‏}‏، يَصْلُحُ لَهُ مَالُهُ وَأَمْرُهُ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ يُخَالِطْهُ فَيَأْكُلُ مَعَهُ وَيُطْعِمُهُ وَيَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ وَيَحْمِلُهُ وَيَسْتَخْدِمُ خَادِمَهُ وَيَخْدِمُهُ، فَهُوَ أَجْوَدُ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ‏}‏ إِلَى ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏، وَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَحَدِهِمُ الْيَتِيمُ جُعِلَ طَعَامُهُ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَلَبَنُهُ عَلَى نَاحِيَةٍ، مَخَافَةَ الْوِزْرِ، وَإِنَّهُ أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَهْدُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَا يَجْعَلُونَ خَدَمًا لِلْيَتَامَى، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ‏}‏ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ‏.‏ حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعَتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ النَّاسِ‏}‏ ‏(‏كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْيَتِيمِ، فَلَا يَمَسُّونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَرْكَبُونَ لَهُمْ دَابَّةً، وَلَا يَطْعَمُونَ لَهُمْ طَعَامًا‏.‏ فَأَصَابَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَسَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَأْنِ الْيَتَامَى وَعَنْ مُخَالَطَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏ يَعْنِي “ بِالْمُخَالَطَةِ “ رُكُوبَ الدَّابَّةِ، وَخِدْمَةَ الْخَادِمِ، وَشُرْبَ اللَّبَنِ‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا‏:‏ وَيَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ أَصْحَابُكَ عَنْ مَالِ الْيَتَامَى، وَخَلْطِهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْمُطَاعَمَةِ وَالْمُشَارَبَةِ وَالْمُسَاكَنَةِ وَالْخِدْمَةِ، فَقُلْ لَهُمْ‏:‏ تَفَضُّلُكُمْ عَلَيْهِمْ بِإِصْلَاحِكُمْ أَمْوَالَهُمْ- مِنْ غَيْرِ مَرْزِئَةِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَغَيْرِ أَخْذٍ عِوَضٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى إِصْلَاحِكُمْ ذَلِكَ لَهُمْ- خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْظَمُ لَكُمْ أَجْرًا، لِمَا لَكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَخَيْرٌ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَوَفُّرِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ‏}‏ فَتُشَارِكُوهُمْ بِأَمْوَالِكُمْ أَمْوَالِهِمْ فِي نَفَقَاتِكُمْ وَمَطَاعِمِكُمْ وَمَشَارِبِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ، فَتَضُمُّوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عِوَضًا مِنْ قِيَامِكُمْ بِأُمُورِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ وَإِصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَالْإِخْوَانُ يُعِينُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَكْنُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَذُو الْمَالِ يُعِينُ ذَا الْفَاقَةِ، وَذُو الْقُوَّةِ فِي الْجِسْمِ يُعِينُ ذَا الضَّعْفِ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَأَيْتَامُكُمْ كَذَلِكَ، إِنْ خَالَطْتُمُوهُمْ بِأَمْوَالِكُمْ فَخَلَطْتُمْ طَعَامَكُمْ بِطَعَامِهِمْ، وَشَرَابَكُمْ بِشَرَابِهِمْ، وَسَائِرَ أَمْوَالِكُمْ بِأَمْوَالِهِمْ، فَأَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَضْلَ مَرْفَقٍ بِمَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ قِيَامِكُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَوَلَائِهِمْ، وَمُعَانَاةِ أَسْبَابِهِمْ، عَلَى النَّظَرِ مِنْكُمْ لَهُمْ نَظَرَ الْأَخِ الشَّفِيقِ لِأَخِيهِ، الْعَامِلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِمَا أُوجِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَلْزَمُهُ فَذَلِكَ لَكُمْ حَلَالٌ، لِأَنَّكُمْ إِخْوَانٌ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا‏:‏- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَدْ يُخَالِطُ الرَّجُلُ أَخَاهُ‏.‏ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ إِنِّي لِأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْيَتِيمِ كَالْعُرَّةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوائِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَة قالَتْ‏:‏ إِنَّى لَأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدِي عُرَّةً، حَتَّى أَخْلِطَ طَعَامَهُ بِطَعَامِي وَشَرَابَهُ بِشَرَابِي‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قَالَ‏:‏ “ فَإِخْوَانُكُمْ “، فَرَفَعَ “ الْإِخْوَانَ “‏؟‏ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْبَقَرَةِ‏:‏ 239‏]‏ قِيلَ‏:‏ لِافْتِرَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ أَيْتَامَ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانُ الْمُؤْمِنِينَ، خَالَطَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَوْ لَمْ يُخَالِطُوهُمْ‏.‏ فَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ‏.‏ وَ“ الْإِخْوَانُ “ مَرْفُوعُونَ بِالْمَعْنَى الْمَتْرُوكِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ “ هُمْ “ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ “ بِالْإِخْوَانِ “ الْخَبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِخْوَانًا مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ وُلَاتِهِمْ إِيَّاهُمْ‏.‏ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادُ، لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ نَصْبًا، وَكَانَ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ‏:‏ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَخَالِطُوا إِخْوَانَكُمْ، وَلَكِنَّهُ قُرِئَ رَفْعًا لِمَا وُصَفْتُ مِنْ أَنَّهُمْ إِخْوَانٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، خَالَطُوهُمْ أَوْ لَمْ يُخَالِطُوهُمْ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا‏}‏، فَنَصْبٌ، لِأَنَّهُمَا حَالَانِ لِلْفِعْلِ، غَيْرُ دَائِمَيْنِ، وَلَا يَصْلُحُ مَعَهُمَا “ هُوَ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ أَظْهَرْتَ “ هُوَ “ مَعَهُمَا لَاسْتَحَالَ الْكَلَامُ‏.‏ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ “ إِنْ خِفْتَ مِنْ عَدُّوِكَ أَنْ تَصِلِيَ قَائِمًا فَهُوَ رَاجِلٌ أَوْ رَاكِبٌ “، لَبُطَلَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِالْكَلَامِ‏؟‏ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ‏.‏ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تُصَلُّوا قِيَامًا مَنْ عَدُوِّكُمْ، فَصَلُّوا رِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا‏.‏ وَلِذَلِكَ نَصَبَهُ إِجْرَاءً عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا تَقُولُ فِي نَحْوِهِ مِنَ الْكَلَامِ‏:‏ “ إِنْ لَبِسْتَ ثِيَابًا فَالْبَيَاضَ “ فَتَنْصِبُهُ، لِأَنَّكَ تُرِيدُ‏:‏ إِنْ لَبِسْتَ ثِيَابًا فَالْبَسِ الْبَيَاضَ- وَلَسْتَ تُرِيدُ الْخَبَرَ عَنْ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ فَهُوَ الْبَيَاضُ‏.‏ وَلَوْ أَرَدْتَ الْخَبَرَ عَنْ ذَلِكَ لَقُلْتَ‏:‏ “ إِنْ لَبِسْتَ ثِيَابًا فَالْبَيَاضُ “ رَفْعًا، إِذْ كَانَ مُخْرِجُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنْكَ عَنِ اللَّابِسِ، أَنَّ كُلَّ مَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ فَبَيَاضٌ‏.‏ لِأَنَّكَ تُرِيدُ حِينَئِذٍ‏:‏ إِنْ لَبِسْتَ ثِيَابًا فَهِيَ بَيَاضٌ‏.‏ فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَهَلْ يَجُوزُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ فَإِخْوَانُكُمْ‏"‏‏.‏ قِيلَ‏:‏ جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ‏.‏ فَأَمَّا فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّمَا مَنَعْنَاهُ لِإِجْمَاعِ الْقَرَأَةِ عَلَى رَفْعِهِ‏.‏ وَأَمَّا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّمَا أَجَزْنَاهُ، لِأَنَّهُ يَحْسُنُ مَعَهُ تَكْرِيرُ مَا يُحْمَلُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ مِنَ الْفِعْلِ فِيهِمَا‏:‏ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ، فَإِخْوَانُكُمْ تُخَالِطُونَ- فَيَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ إِنْ رَبَّكُمْ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ فِي مُخَالَطَتِكُمُ الْيَتَامَى عَلَى مَا أَذِنَ لَكُمْ بِهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنْ تُخَالِطُوهُمْ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَتَجْعَلُونَ مُخَالَطَتَكُمْ إِيَّاهُمْ ذَرِيعَةً لَكُمْ إِلَى إِفْسَادِ أَمْوَالِهِمْ وَأَكْلِهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، فَتَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ مِنْهُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهَا، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَنْ خَالَطَ مِنْكُمْ يَتِيمَهُ- فَشَارَكَهُ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَسْكَنِهِ وَخَدَمِهِ وَرُعَاتِهِ فِي حَالِ مُخَالَطَتِهِ إِيَّاهُ- مَا الَّذِي يُقْصَدُ بِمُخَالَطَتِهِ إِيَّاهُ‏:‏ إِفْسَادُ مَالِهِ وَأَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ، أَمْ إِصْلَاحُهُ وَتَثْمِيرُهُ‏؟‏ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَعْلَمُ أَيَّكُمُ الْمُرِيدُ إِصْلَاحَ مَالِهِ، مِنَ الْمُرِيدِ إِفْسَادَهُ‏.‏ كَمَا‏:‏- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُ يَعْلَمُ حِينَ تَخْلِطُ مَالَكَ بِمَالِهِ‏:‏ أَتُرِيدُ أَنْ تُصْلِحَ مَالَهُ، أَوْ تُفْسِدَهُ فَتَأْكُلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ‏؟‏ حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنِ الشَّعْبِيِّ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ‏}‏، قَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ فَمَنْ خَالَطَ يَتِيمًا فَلْيَتَوَسَّعْ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَالَطَهُ لِيَأْكُلَ مَالَهُ فَلَا يَفْعَلْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَحَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ لَكُمْ مِنْ مُخَالَطَةِ أَيْتَامِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ أَمْوَالَهُمْ، فَجَهَدَكُمْ ذَلِكَ وَشِقَّ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الْقِيَامِ بِاللَّازِمِ لَكُمْ مَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبِ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَرْضِهِ، وَلَكِنَّهُ رَخَّصَ لَكُمْ فِيهِ وَسَهَّلَهُ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً بِكُمْ وَرَأْفَةً‏.‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “ لَأَعَنْتَكُمْ‏"‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ- أَوْ عِيسَى عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ- عَنْ مُجَاهِدٍ شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏ لَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَرْعَى وَالْأُدْمَ‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ رَعْيَ مَوَاشِي وَالِي الْيَتِيمِ مَعَ مَوَاشِي الْيَتِيمِ، وَالْأَكْلَ مِنْ إِدَامِهِ‏.‏ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ‏}‏، أَنَّهُ خُلْطَةُ الْوَلِيِّ الْيَتِيمَ بِالرَّعْيِ وَالْأُدْمِ‏.‏ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لِأَحْرَجَكُمْ فَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ النِّسَاءِ‏:‏ 6‏]‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَجَهَدَكُمْ، فَلَمْ تَقُومُوا بِحَقٍّ وَلَمْ تُؤَدُّوا فَرِيضَةً‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ فَلَمْ تَعْمَلُوا بِحَقٍّ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏، لَشَدَّدَ عَلَيْكُمْ‏.‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَشَقَّ عَلَيْكُمْ فِي الْأَمْرِ‏.‏ ذَلِكَ الْعَنَتُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مُوبِقًا‏.‏ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَمَّنْ ذُكِرَتْ عَنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ قَائِلِيهَا فِيهَا، فَإِنَّهَا مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي‏.‏ لِأَنَّ مَنْ حُرِّمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقَدْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أُحْرِجَ فِيهِ، وَمَنْ أُحْرِجَ فِي شَيْءٍ أَوْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِيهِ فَقَدْ جُهِدَ‏.‏ وَكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ‏.‏ وَلِذَلِكَ قِيلَ‏:‏ “ عَنِتَ فُلَانٌ “ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَجَهَدَهُ، “ فَهُوَ يَعْنَتُ عَنَتًا “، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ التَّوْبَةِ‏:‏ 128‏]‏، يَعْنِي مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ وَآذَاكُمْ وَجَهَدَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ النِّسَاءِ‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فَهَذَا إِذَا عَنِتَ الْعَانِتُ‏.‏ فَإِنْ صَيَّرَهُ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، قِيلَ‏:‏ “ أَعْنَتَهُ فُلَانٌ فِي كَذَا “ إِذْ جَهَدَهُ وَأَلْزَمَهُ أَمْرًا جَهَدَهُ الْقِيَامُ بِهِ “ يُعْنِتُهُ إِعْنَاتًا‏"‏‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ “ لَأَعْنَتُكُمْ “ مَعْنَاهُ‏:‏ لَأَوْجَبَ لَكُمُ الْعَنَتَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْكُمْ مَا يُجْهِدُكُمْ وَيُحْرِجُكُمْ، مِمَّا لَا تُطِيقُونَ الْقِيَامَ بِاجْتِنَابِهِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبِ لَهُ عَلَيْكُمْ فِيهِ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَأَوْبَقَكُمْ وَأَهْلَكَكُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَرَأَ عَلَيْنَا‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مُوبِقًا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ فُضَيْلٍ- وَجَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَرِيرٌٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَجَعْلَ مَا أَصَبْتُمْ مُوبِقًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ “ عَزِيزٌ “ فِي سُلْطَانِهِ، لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِمَّا أَحَلَّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَةٍ لَوْ أَعْنَتَكُمْ بِمَا يُجْهِدُكُمُ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ فَقَصَّرْتُمْ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَلَا يَقْدِرُ دَافِعٌ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِكُمْ وَبِغَيْرِكُمْ مِنْ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ مَنَّ عَلَيْكُمْ بِتَرْكِ تَكْلِيفِهِ إِيَّاكُمْ ذَلِكَ وَهُوَ “ حَكِيمٌ “ فِي ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ بِكُمْ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَتَدْبِيرِهِ، لَا يَدْخُلُ أَفْعَالَهُ خَلَلٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا وَهْيٌ وَلَا عَيْبٌ، لِأَنَّهُ فِعْلُ ذِي الْحِكْمَةِ الَّذِي لَا يَجْهَلُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ فَيَدْخُلُ تَدْبِيرَهُ مَذَمَّةُ عَاقِبَةٍ، كَمَا يَدْخُلُ ذَلِكَ أَفْعَالَ الْخَلْقِ لِجَهْلِهِمْ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، لِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِيهَا ابْتِدَاءً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ هَلْ نَزَلَتْ مُرَادًا بِهَا كُلُّ مُشْرِكَةٍ، أَمْ مُرَادًا بِحُكْمِهَا بَعْضُ الْمُشْرِكَاتِ دُونَ بَعْضٍ‏؟‏ وَهَلْ نُسِخَ مِنْهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا شَيْءٌ أَمْ لَا‏؟‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ نَزَلَتْ مُرَادًا بِهَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ كُلِّ مُشْرِكَةٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ أَيِّ أَجْنَاسِ الشِّرْكِ كَانَتْ، عَابِدَةَ وَثَنٍ كَانَتْ، أَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الشِّرْكِ، ثُمَّ نَسَخَ تَحْرِيمَ نِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ إِلَى ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْمَائِدَةِ‏:‏ 5‏]‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، ثُمَّ اسْتَثْنَى نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ حِلٌّ لَكُمْ ‏{‏إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَحَلَّهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ‏.‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، قَالَ‏:‏ نِسَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أَحَلَّ مِنْهُنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ حَرَّمَ اللَّهُ الْمُشْرِكَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ فِي “ سُورَةِ الْمَائِدَةِ “، فَاسْتَثْنَى نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُرَادًا بِحُكْمِهَا مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَمْ يُسْتَثْنَ، وَإِنَّمَا هِيَ آيَةٌ عَامٌّ ظَاهِرُهَا، خَاصٌّ تَأْوِيلُهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ مُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ اللَّاتِي لَيْسَ فِيهِنَّ كِتَابٌ يَقْرَأْنَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْمُشْرِكَاتُ‏:‏ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً‏.‏ حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، يَعْنِي مُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ اللَّاتِي لَيْسَ لَهُنَّ كِتَابٌ يَقْرَأْنَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، قَالَ‏:‏ مُشْرِكَاتُ أَهْلِ الْأَوْثَانِ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُرَادًا بِهَا كُلُّ مُشْرِكَةٍ مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الشِّرْكِ كَانَتْ، غَيْرَ مَخْصُوصٍ مِنْهَا مُشْرِكَةٌ دُونَ مُشْرِكَةٍ، وَثَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ كِتَابِيَّةً، وَلَا نُسِخَ مِنْهَا شَيْءٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامٍ الْفَزَارِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ، وَحَرَّمَ كُلَّ ذَاتِ دِينٍ غَيْرَ الْإِسْلَام‏)‏ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْمَائِدَةِ‏:‏ 5‏]‏ وَقَدْ نَكَحَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَهُودِيَّةً، وَنَكَحَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ نَصْرَانِيَّةً، فَغَضِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا‏.‏ فَقَالَا نَحْنُ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْضَبْ‏!‏ فَقَالَ‏:‏ لَئِنْ حَلَّ طَلَاقُهُنَّ لَقَدْ حَلَّ نِكَاحُهُنَّ، وَلَكِنْ أَنْتَزِعُهُنَّ مِنْكُمْ صَغَرَةً قِمَاءً‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ‏:‏ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَأَنَّ الْآيَةَ عَامٌّ ظَاهِرُهَا خَاصٌّ بَاطِنُهَا، لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُ دَاخِلَاتٍ فِيهَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَحَلَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏- لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِكَاحِ مُحْصِنَاتِهِنَّ، مِثْلَ الَّذِي أَبَاحَ لَهُمْ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي كِتَابِنَا ‏(‏كِتَابِ اللَّطِيفِ مِنَ الْبَيَانِ‏)‏‏:‏ أَنَّ كُلَّ آيَتَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا نَافِيًا حُكْمَ الْآخَرِ فِي فِطْرَةِ الْعَقْلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقْضَى عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ نَاسِخٌ حُكْمَ الْآخَرِ، إِلَّا بِحُجَّةٍ مِنْ خَبَرٍ قَاطِعٍ لِلْعُذْرِ مَجِيئُهُ‏.‏ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ نَاسِخٌ مَا كَانَ قَدْ وَجَبَ تَحْرِيمُهُ مِنَ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏‏.‏ فَإِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا كَذَلِكَ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ‏:‏ “ هَذِهِ نَاسِخَةٌ هَذِهِ “، دَعْوَى لَا بُرْهَانَ لَهُ عَلَيْهَا، وَالْمُدَّعِي دَعْوَى لَا بُرْهَانَ لَهُ عَلَيْهَا مُتَحَكِّمٌ، وَالتَّحَكُّمُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ‏.‏ وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ مِنْ تَفْرِيقِهِ بَيْنَ طَلْحَةَ وَحُذَيْفَةَ وَامْرَأَتَيْهِمَا اللَّتَيْنِ كَانَتَا كِتَابِيَّتَيْنِ، فَقَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ- لِخِلَافِهِ مَا الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى تَحْلِيلِهِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ، وَخَبَرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْقَوْلِ خِلَافُ ذَلِكَ، بِإِسْنَادٍ هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا‏:‏- حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ‏:‏ الْمُسْلِمُ يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَةَ‏.‏ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عُمَرُ لِطَلْحَةَ وَحُذَيْفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْنِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِحِذَارًا مِنْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَيَزْهَدُوا فِي الْمُسْلِمَاتِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي، فَأَمَرَهُمَا بِتَخْلِيَتِهِمَا‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ بَهْرَامٍ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ‏:‏ تَزَوُّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ‏:‏ “ خَلِّ سَبِيلَهَا “ فَكَتَبَ إِلَيْهِ‏:‏ “ أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأُخْلِيَ سَبِيلُهَا‏؟‏ “، فَقَالَ‏:‏ “ لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ‏"‏‏.‏ وَقَدْ‏:‏- حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَارٍ عَنِ الْحَسَنِعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ ‏(‏نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا‏)‏‏.‏ فَهَذَا الْخَبَرُ- وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَا فِيهِ- فَالْقَوْلُ بِهِ، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ‏.‏ فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا‏:‏ وَلَا تَنْكِحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مُشْرِكَاتٍ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فَيُصَدِّقْنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ‏}‏ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَأَفْضَلُ مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ كَافِرَةٍ، وَإِنْ شَرُفَ نَسَبُهَا وَكَرُمَ أَصْلُهَا‏.‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَبْتَغُوا الْمُنَاكِحَ فِي ذَوَاتِ الشَّرَفِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْإِمَاءَ الْمُسْلِمَاتِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مَنْكَحًا مِنْهُنَّ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ نَكَحَ أَمَةً، فَعُذِلَ فِي ذَلِكَ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ حُرَّةٌ مُشْرِكَةٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ “ وَلَا ‏{‏تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا‏.‏ ثُمَّ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرَهُ بِخَبَرِهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ‏:‏ ‏(‏مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ تَصُومُ وَتَصِلِي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ‏!‏ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا‏!‏ فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا‏:‏ تَزَوَّجَ أَمَةً‏!‏‏!‏ وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَنْكِحُوهُمْ رَغْبَةً فِي أَحِسَابِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ‏}‏ وَ‏(‏لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْمُشْرِكَاتُ- لِشَرَفِهِنَّ- حَتَّى يُؤْمِنَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَإِنْ أَعْجَبَتْكُمُ الْمُشْرِكَةُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْجَمَالِ وَالْحَسَبِ وَالْمَالِ، فَلَا تَنْكِحُوهَا، فَإِنَّ الْأَمَّةَ الْمُؤْمِنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا‏.‏ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ “ لَوْ “ مَوْضِعَ “ إِنَّ “ لَتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَمَعْنَيَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ تُجَابُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِجَوَابِ صَاحِبَتِهَا، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ قَدْحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَنْكِحْنَ مُشْرِكًاكَائِنًا مَنْ كَانَ الْمُشْرِكُ، وَمِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الشِّرْكِ كَانَ، فَلَا تَنْكِحُوهُنَّ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، وَلِأَنَّ تُزَوِّجُوهُنَّ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ مُصَدِّقٍ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تُزَوِّجُوهُنَّ مِنْ حَرٍّ مُشْرِكٍ، وَلَوْ شَرُفَ نَسَبُهُ وَكَرُمَ أَصْلُهُ، وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ حَسْبَهُ وَنَسَبَهُ‏.‏ وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَقُولُ‏:‏ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّأَوْلِيَاءَ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ بِتَزْوِيجِهَا مِنَ الْمَرْأَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ شَيْخٍ لَمْ يُسَمِّهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا‏}‏ بِرَفْعِ التَّاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “ وَلَا ‏{‏تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُنْكِحَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَلَا مُشْرِكًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ‏}‏- لِشَرَفِهِمْ- ‏{‏حَتَّى يُؤْمِنُوا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ حَرَّمَ الْمُسَلِّمَاتِ عَلَى رِجَالِهِمْ- يَعْنِي رِجَالَ الْمُشْرِكِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ‏}‏ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “ أُولَئِكَ “، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مُنَاكَحَتَهُمْ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَنِسَائِهِمْ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى النَّارِ يَعْنِي‏:‏ يَدْعُونَكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا يُدْخِلُكُمُ النَّارَ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي هُمْ بِهِ عَامِلُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ، وَلَا تَسْتَنْصِحُوهُمْ، وَلَا تَنْكِحُوهُمْ وَلَا تَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَلَكِنِ اقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ يَعْنِي بِذَلِكَ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا يُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ، وَيُوجِبُ لَكُمُ النَّجَاةَ إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَإِلَى مَا يَمْحُو خَطَايَاكُمْ أَوْ ذُنُوبَكُمْ، فَيَعْفُو عَنْهَا وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “ بِإِذْنِهِ “، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاكُمْ سَبِيلَهُ وَطَرِيقَهُ الَّذِي بِهِ الْوُصُولُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ـ‏:‏ ‏{‏وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَيُوَضِّحُ حُجَجَهُ وَأَدِلَّتَهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنَزَلَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لِعِبَادِهِ، لِيَتَذَكَّرُوا فَيَعْتَبِرُوا، وَيُمَيِّزُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا دَعَّاءٌ إِلَى النَّارِ وَالْخُلُودِ فِيهَا، وَالْآخِرُ دَعَّاءٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، فَيَخْتَارُوا خَيْرَهُمَا لَهُمْ‏.‏ وَلَمْ يَجْهَلِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ هَاتَيْنِ إِلَّا غَبِيٌّ ‏[‏غَبِينُ‏]‏ الرَّأْيِ مَدْخُولُ الْعَقْلِ‏.‏